وجهات سياحية مخصصة فقط لأفراد مجتمع الميم.. والسبب؟

أثناء بحث سريع كانت تجريه الصحافية داليا محمد عن أنشطة ورحلات يمكن حجزها خلال فصل الصيف القادم، صادفتها عطلات مخصصة للعائلات التي لديها أطفال، وأخرى لمن لديهم كلاب لا يستطيعون تركها وحيدة في المنزل أثناء الإجازة، وثالثة للكبار فقط الراغبين بالاستمتاع بوقتهم من دون صخب الصغار وإزعاجهم، وغيرها توفر مرافق مناسبة لذوي الحاجات الخاصة، وإجازات للمثليين وغيرهم من أبناء مجتمع الميم (الذي يشمل المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسياً).

استوقفها الخيار الأخير قليلاً، وجعلها تتساءل عن رغبة أبناء مجتمع الميم بمرافق حصرية لهم: هل لأن لديهم حاجات وطلبات خاصة لا تلبيها الأماكن التي تخدم بقية الناس، أم لأنهم ما زالوا يشعرون بأنهم أفراد غير مرحب بهم في بعض المجتمعات والمدن؟

أجابت الصحافية عن تساؤلاتها في مقال كتبته لصحيفة “اندبندت العربية”، حيث اكدت أن الاحتياج الأهم بالنسبة إلى السياح المثليين هو السلامة، بخاصة عند سفرهم إلى وجهات معروفة بعنفها وتمييزها ضدهم.

الاضطهاد والملاحقة في نيويورك!

تاريخياً، كان أبناء مجتمع الميم مضطرين إلى الالتقاء وممارسة أنشطتهم في الخفاء خوفاً من الاضطهاد والملاحقة، وهو أمر ما زال قائماً إلى يومنا هذا في بعض الدول التي تجرم المثلية الجنسية. حتى في قلب مدينة نيويورك التي تعد حالياً عاصمة مجتمع الميم في العالم وتضم أكبر تجمع للمثليين، حيث تجاوز عددهم 700 ألف شخص في نهاية عام 2021.

على سبيل المثال، نادي “ستوديو 54” الشهير في برودواي في منهاتن، الذي تأسس عام 1927 كدار للأوبرا، كان يستقبل زواره من المثليين ويقيم حفلات في قاعة رقص خاصة مخفية ويستقطب نجوم الموسيقى والتمثيل من أبناء مجتمع الميم أو المناصرين لهم، ولم يتم الإعلان عن هويته كناد للمثليين إلا في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

كانت المرافق التي تؤوي المثليين حتى تلك الفترة تتعرض لمداهمات متكررة من الشرطة التي كانت تكافح ما يسمى “الترفيه المنحرف”. من أشهر تلك الحوادث الهجوم الذي تعرض له نادي “ستونول أن” في نيويورك عام 1969 فيما يعرف بانتفاضة ستونول، عندما رد أكثر من ألف شخص من أبناء مجتمع الميم على مداهمة الشرطة بتظاهرات استمرت لمدة ثلاثة أيام، فيما يعتبر اليوم أهم حدث تاريخي في مسيرة تحرير المثليين والنضال الحديث من أجل حقوق المثليين في الولايات المتحدة.

وفي ليلة 27 يونيو (حزيران)، تجمّع في النادي نحو 300 شخص لإحياء مناسبة مرور أسبوع على وفاة نجمة السينما والمطربة الشهيرة جودي غارلاند التي كانت مدافعة عن الحقوق المدنية وضد التمييز العنصري، وتعرضوا للضرب والتعنيف من قبل الشرطة التي اقتحمت المكان.

أدت حاجة أفراد مجتمع الميم إلى التواصل الاجتماعي والقيام بأنشطتهم بعيداً من الأعين المنتقدة والمعادية والكارهة إلى نشوء حانات ومطاعم وفنادق وحياة ليلية، وأماكن ترفيه وغيرها تقدم خدماتها بكل رحابة صدر لهم وتكون معروفة بينهم وبشكل غير مباشر للأشخاص الذين لا ينتمون إلى هذا المجتمع الذين يودون تجنبها.

قرى وأحياء خاصة للمثليين

تدريجياً، أدى هذا إلى تشكل ما يسمى “قرى المثليين”، المعروفة أيضاً بـ”أحياء المثليين”، وهي عبارة عن مناطق يعيش فيها أو يتردد إليها كثيرون من أبناء مجتمع الميم والمناصرين لهم. غالباً ما تضم هذه القرى عدداً من المنشآت الموجهة للمثليين، مثل المسابح ومحلات الملابس والمكتبات إضافة إلى المرافق المذكورة سابقاً.

من أشهر قرى المثليين في العالم حي سوهو في لندن، والقرية المثلية في مانشستر، وحي تشيلسي بمنهاتن في نيويورك، وكاسترو في سان فرانسيسكو، وشويكا في مدريد، وشارع لوماريه بباريس وحي وشونبيرغ في برلين الذي كان أول قرية رسمية للمثليين في العالم، تطورت في عشرينيات القرن الماضي.

تُعد هذه القرى ملجأ آمناً ومريحاً لأفراد مجتمع الميم على وجه الخصوص عندما يتواجدون في مدن معادية لهم. فقد تكون قائمة في المدن الكبيرة أو الصغيرة على حد سواء، وتمكّن مرتاديها من الاستفادة من المساحات الخاصة التي توفرها كوسيلة لعكس قيمهم الثقافية وخدمتهم كأفراد لهم حاجات لا يلبيها المجتمع الأوسع.

اكتسبت هذه الأماكن سمعة طيبة، ليس فقط بين أوساط المثليين، لكن بين الأشخاص غير المتوافقين جنسياً لأن الحفلات التي تقام فيها أكثر إمتاعاً وتتمتع بأجواء وموسيقى ورقص أفضل. في مسح أجرته شبكة “فايس” الإعلامية بداية السنة الماضية، تبين أن الحفلات المثلية مفضلة لدى غير المثليين أيضاً لأنهم يشعرون بأنهم مرحب بهم ولا يتم التعامل معهم بأحكام مسبقة ولا إلصاق وصمة عار بهم لسعيهم وراء إرضاء ملذاتهم.

ومع زيادة الدعم لحقوق المثليين الذي انطلق في تسعينيات القرن الماضي والذي بات يتكاثف بشكل متسارع منذ بداية الألفية، صرنا نعثر على هذه القرى في أرقى مناطق المدن الكبرى، كما هي الحال في مانهاتن وسوهو، مقترنة بما تحمله هذه المراكز من قيم جمالية وتاريخية وثقافية، ولم تعد تجمعات المثليين في مناطق نائية ومعزولة وناجمة عن النبذ ​​الاجتماعي والسياسي والتعرض للعنف أو التهديد به.

يأتي هذا التوجه إلى مراكز المدن الحيوية والمهمة ضمن حملة تحسين الصورة، وهي ظاهرة يبذل فيها المثليون جهداً كبيراً منذ سنوات كثيرة.

مسيرات الفخر

وضمن هذا السياق، كان تركيز الحركة المثلية على إقامة فعاليات سنوية بارزة في قلب المدن الكبرى، والتي صارت تُعرف لاحقاً بما يسمى مهرجانات الفخر، وهي مصدر جذب وربح مادي مهمّ.

كانت برلين أول مدينة أطلقت مهرجان فخر للمثليين والمثليات عام 1979 الذي يعد الأضخم عالمياً حيث شهد مشاركة أكثر من مليوني شخص عام 2022. من بين الدول الأخرى التي تستضيف مهرجانات الفخر الكبرى: سيدني وأمستردام وبوينس أيرس وسان فرانسيسكو ومونتريال، إلى جانب نيويورك ولندن طبعاً.

تهدف هذه المهرجانات إلى الإعراب عن افتخار المشاركين بميولهم الجنسية والخروج من عالمهم الخفي إلى الأضواء والتعبير علناً عن ميولهم وهوياتهم الجنسية والاحتفاء بالتنوع في مجتمعهم. وبات النشاط السياسي والاجتماعي عنصراً أساسياً في المهرجانات حيث يحمل المشاركون لافتات تركز على القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة بالنسبة لهم.

وعلى رغم المقاومة السابقة لهذه المسيرات في بعض المدن مثل موسكو والقدس، ما زالت الفعاليات تقام سنوياً وتشهد زيادة عدد المشاركين فيها. ومع أن المثلية الجنسية ما زالت محظورة بشكل رسمي في الدول العربية وشمال أفريقيا ومعظم مناطق الشرق الأوسط والدول التي ترتكز قوانينها إلى الشريعة الإسلامية.

إلا أن العاصمة اللبنانية بيروت تشهد منذ سنوات تنظيم فعاليات مثلية أثارت الصيف الماضي جدلاً واسعاً بين مؤيدين لا يرون أن مثل هذه التجمعات تهدد أمن البلاد ومعارضين يعتبرون أن الهدف منها هو تغيير هوية لبنان الأخلاقية. وبعد معركة قضائية أوقف مجلس شورى الدولة في الخريف الماضي، العمل بقرار وزير الداخلية الذي طالب قوى الأمن بمنع أي لقاء أو تجمع لأفراد مجتمع الميم، بعد طعن استنكر القرار ووصفه بأنه يقيد حريات مضمونة دستورياً ويهدد السلم الأهلي ويحرض على العنف والكراهية ضد فئات هشة يجدر بالدولة حمايتها وليس ترهيبها.

لكن في المقابل، لا تزال هناك مجاهرة في رفض أي ميول غير متباينة جنسياً حتى في دول لا تمنع المثلية الجنسية ولا تعاقب عليها.

في عام 2020 مثلاً، أثارت بولندا لغطاً شديداً عندما أصدرت نحو 100 بلدة ومنطقة، أي ما يعادل ثلث البلاد تقريباً، بيانات تعلن خلوها من “أيديولوجية المثليين ومزدوجي الجنس والعابرين جنسياً”، وتتم فيها مهاجمة المثليين ومعاملتهم بعداء علني، رغم أن بولندا ألغت تجريم المثلية الجنسية سنة 1932 سابقة بذلك معظم الدول الأوروبية بعقود.

الدافع وراء هذه الحملة الشرسة كان القلق في شأن التركيبة الديموغرافية للبلاد مع انخفاض معدلات المواليد في بولندا لأدنى مستوياتها منذ الحرب العالمية الثانية، إلى جانب رؤية كثيرين أن النضال من أجل حقوق المثليين مفهوم غربي مستورد من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ويهدد العائلة البولندية.

وفي صيف العام الماضي طالبت الشرطة النرويجية بتأجيل جميع الأحداث المرتبطة بالمثليين في جميع أنحاء البلاد، بسبب مخاوف أمنية بعد حادثة إطلاق نار نفذه مسلح في حانة للمثليين في أوسلو أدى إلى مقتل شخصين وإصابة 21، ما دفع الشرطة إلى رفع تقييم خطر الإرهاب في البلاد إلى أعلى مستوى.

مع تقبل مزيد من فئات المجتمع وجود المثليين جنسياً والفئات الأخرى، بدأت الشركات والمؤسسات الصديقة للمثليين بالمشاركة في الأنشطة المثلية ورعايتها والترويج للتنوع الجنسي. مثلاً أعلنت شركة “ديزني” رائدة الرسوم المتحركة أنها تعمل على جعل 50 في المئة على الأقل من إنتاجها داعماً للمثليين أو بأبطال ذوي ميول جنسية مثلية، رغم أن هؤلاء لا يمثلون حتى الآن نصف المشاهدين.

صحيح أننا لم نشهد بعد نشوء أحياء وتجمعات علنية خاصة بالمثليين ضمن المجتمعات العربية، لكننا في ظل الصحوة العالمية تجاه أفراد مجتمع الميم، وعدم سكوت أبنائه بعد الآن على الظلم أو العنف أو الإقصاء الذي تعرضوا له لسنوات. بتنا نسمع صوتهم ومطالبهم ونرى أنشطتهم على نطاق واسع في العالم الافتراضي الذي صار حضورنا فيه أكبر من العالم الحقيقي، وهو فضاء لا تحكمه حدود جغرافية ولا يخضع لمداهمات الشرطة أو سلطة قوى الأمن ولا إنفاذ دساتير الدول.

أخبار أخرى عن مجتمع الميم

Leave a Reply

Your email address will not be published.