تابو المثلية الجنسية في الثقافة العربية والإسلامية.. وسياسات الهوية والاعتراف!
مقال معمّق كتابة الدكتور حسام الدين درويش، أكاديمي وباحث في الفلسفة الغربية والفكر العربي والإسلامي، يتناول موضوع ” تابو المثلية الجنسية وسياسات الهوية والاعتراف”. تم نشره على موقع “اتحاد” بموجب الاستخدام العادل والأخلاقي للمعلومات، وكل الحقوق محفوظة لأصحابها.
يواصل الدكتور درويش تفكيك الأساطير والأفكار المسبقة حول المثلية الجنسية، حيث يعمل في مقاله هذا على سمات أو مضامين “سياسات الهوية والاعتراف”، في الثقافة الغربية، من أجل توضيح مفهومي “التمييز الإيجابي” و”التمييز السلبي” تجاه المثليين، وخصوصية التابو الجنسي عمومًا، وتابو المثلية الجنسية (بين الذكور تحديدًا) خصوصًا، في الثقافة العربية (و) الإسلامية.
بعد “الفترة الذهبية لليبرالية الغربية” التي سمحت بكسر كثيرٍ من المحظورات والتخلص منها أو تخطيها، أصبح انتهاك التابوات القديمة وتجاوزها يترافق، منذ ثمانينيات القرن الماضي خصوصًا، مع ظهور تابواتٍ كثيرةٍ جديدةٍ، في إطار “سياسات الهوية والاعتراف” التي بدأت تهيمن، تدريجيًّا، في هذه الثقافة. وسنقوم فيما يلي بالإشارة إلى بعض سمات أو مضامين “سياسات الهوية والاعتراف”، في الثقافة الغربية، من أجل توضيح مفهومي “التمييز الإيجابي” و”التمييز السلبي” تجاه المثليين، وخصوصية التابو الجنسي عمومًا، وتابو المثلية الجنسية (بين الذكور تحديدًا) خصوصًا، في الثقافة العربية (و) الإسلامية.
(1) سياسات الهوية والاعتراف: بين التمييز السلبي والتمييز الإيجابي
وفقًا لهذه السياسات، تم ويتم تحويل مجموعاتٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ من الناس إلى جماعاتٍ عضويةٍ مميزةٍ ومتمايزةٍ، انطلاقًا من اتسامها بسمةٍ معينةٍ هي، بمعنى ما، المحدِّد الأساسي ﻟ “هويتها”. هذا ما حصل ويحصل، على سبيل المثال، في خصوص السود والنساء والمثليين والمعوقين …إلخ. وعلى هذا الأساس، تمّ التشديد على ضرورة الانتقال من سياسات المساواة، بين الناس عمومًا، أو بين مواطني أو قاطني بلدٍ ما، إلى سياسات التمايز والتمييز، ومن “التمييز السلبي”، في مستوى اللغة والتعامل (والقوانين)، إلى “التمييز الإيجابي”، في خصوص هذه الجماعات وغيرها. وبدا أنّ القيم الديمقراطية المتفرعة من مبادئ المساواة وحرية التعبير تتراجع، لصالح بروز القيم التي تشدد على أولوية مراعاة التمايز واحترام الخصوصيات، ومراقبة وكبت أو قمع كل خطابات و”مشاعر الكراهية”، تجاه هذه الأقليات والجماعات المختلفة. وأصبح التعبير عما يسمى ڊ “مشاعر الكراهية”، تجاه الجماعات المذكورة، يمثِّل انتهاكًا مرفوضًا للتابو، بالمعنى الكامل للكلمة.
ولتجنب أي سوء فهمٍ محتملٍ، من الضروري التشديد على “سلبية التمييز السلبي” و”إيجابية التمييز الإيجابي”. فكلتا الظاهرتين تستحقان الوسم المطلق عليهما. ولا ينبغي للحديث عن وجود أو حصول انتقالٍ ما، من “التمييز السلبي” إلى “التمييز الإيجابي”، أن يعطي الانطباع بأن التمييز السلبي قد زال فعليًّا، أو هو بالضرورة في طريقه إلى الزوال قريبًا، وأن التمييز الإيجابي قد أصبح طاغيًا ومهيمنًا فعليًّا. فما زال التمييز السلبي يطال كثيرًا من أفراد الجماعات المضطهدة المذكورة، حتى في الدول ذات النظام الديمقراطي. ويكفي أن نعلم أنّ كثيرًا من الدول ذات النظام الديمقراطي ما زلت تمارس تمييزًا سلبيًّا كبيرًا بحق المثليين. يُضاف إلى ذلك إن الحديث عن البروز المتزايد للتمييز الإيجابي لا ينطبق إلا على بعض الدول (الغربية خصوصًا)، ذات النظام الديمقراطي، أما “التمييز” في معظم البلاد الأخرى، ومنها “البلاد العربية (و) الإسلامية”، فما زال سلبيًّا جدًّا فقط عمومًا؛ وينطبق ذلك على التمييز الممارس تجاه المثليين خصوصًا.
وفي الثقافة العربية، يبدو التمييز السلبي واضحًا، في خصوص المثلية الجنسية، حيث تتعاضد السلطات السياسية والأمنية والدينية والاجتماعية، وتؤسس لهيجانٍ شعبيٍّ، وتتأسس عليه، ضد المثلية الجنسية، وضد كل ما يمت لها بصلةٍ. فعلى سبيل المثال، في الوقت ذاته الذي كانت فيه ألمانيا تشرعن زواج المثليين، منذ بضعة أشهرٍ، وتمنحهم مزيدًا من الحقوق، في طريق تحقيق المساواة الكاملة بينهم وبين غيرهم من المواطنين، أصدرت مصر قانونًا يجرِّم المثلية الجنسية ممارسة وترويجًا … إلخ، تحت طائلة عقوبة السجن، لمدةٍ قد تصل إلى خمسة عشر عامًا. ويبين هذا القانون أن الآمال بالتراجع التدريجي للعنصرية ضد المثليين في منطقتنا و/ أو ثقافتنا ضعيفةٌ، على الرغم من أنها، أو بالأحرى بسبب أنها، تُعدُّ “(من) الأسوأ عالميًّا”، في هذا الخصوص. فبدلًا من أن تقود السلطات الحاكمة والمهيمنة محاولات التخفيف من الظلم الواقع على الفئات المضطهدة أو المنبوذة وحمايتها، نجد هذه السلطات ذاتها في طليعة ممارسي هذا الاضطهاد والنبذ، ومعززي وجودهما في الدولة والمجتمع.
(2) المثلية الجنسية: تابوات كثيرة وحالة استقطاب كبيرة
بالرغم من أن أوضاع المثليين في كلٍّ من العالمين “العربي الإسلامي” و”الغربي” مختلفةٌ إلى حد التناقض، في كثير من المجالات، ثمة قاسمٌ مشتركٌ مهمٌّ بينهما يتمثل في أن أوضاع المثليين، في الثقافتين، مليئةٌ بالتابوات والخطوط الحمراء التي ينبغي للشخص مراعاتها بدقة، عند تناول المسائل المتصلة بها. ففي الثقافة العربية و/ أو الإسلامية، نجد أن تصريح الشخص بأنه “مثليٌّ”، أو بأنه يدعم منح المثليين كامل الحقوق الممنوحة ﻟ “المغايرين” أو غير المثليين، هو انتهاكٌ مثيرٌ للاستهجان والنفور والغضب والدهشة، وربما الصدمة، لدى شريحةٍ واسعةٍ من الناس؛ ويمكن أن يُعرِّض صاحبه لأخطارٍ كبيرةٍ وكثيرةٍ. وفي المقابل، إن كل ما يُنظر إليه، في “الثقافة الغربية”، على أنه “خطاب كراهية”، مدانٌ، رسميًّا وشعبيًّا، إلى حدٍّ ما. ونظرًا إلى أنه من الممكن أن يُعرِّض صاحبه للمساءلة القانونية، فقد أصبح هذا الخطاب يقتصر غالبًا على الثقافة الشفهية، وضمن دوائر ضيقةٍ أو مغلقةٍ. ونظرًا إلى أن كل ثقافةٍ تتضمن، دائمًا أو غالبًا على الأقل، “ثقافة مضادة” بمعنى ما، نجد أن “الثقافة الغربية” ما زالت تتضمن اتجاهًا قويًّا مضادًّا للمثلية الجنسية، لكن الخشية من مخالفة القانون والملاحقة القضائية تجعل أفرادها مضطرين إلى التزام الصمت أو ممارسة ما يشبه التقية غالبًا. أما في “ثقافتنا العربية و/ أو الإسلامية”، فثمة اتجاهٌ متنامٍ، لكنه ما زال محدودًا وضعيفًا جدًّا، يتبنَّى “الاتجاه الغربي” السائد، في هذا الخصوص، و/ أو يحاول الدفاع عن حقوق المثليين وقضيتهم عمومًا.
إن المواجهة الفكرية، بين أنصار الاتجاهين المختلفين، في الثقافة العربية، هي أكثر ما يهمنا في السياق الحالي. وفيما يشبه المفارقة، يشترك الاتجاهان بصفةٍ مشتركةٍ أساسيةٍ تتمثل في أن كليهما لا يرى أي معقوليةٍ أو مقبوليةٍ (أخلاقيةٍ خصوصًا) في موقف الطرف الآخر، ولا يبدي أي استعدادٍ لتفهم موقف هذا “الآخر”، في هذا الخصوص. فكلاهما يحوِّل إمكانية مخالفة الرأي الذي يتبناه إلى تابو أو محظورٍ لا ينبغي انتهاكه مطلقًا. وكل موقفٍ، من هذين الموقفين، قائمٌ على تسويغٍ مطلقٍ للذات، وتقييمٍ إيجابيٍّ لها، مقابل تقييمٍ سلبيٍّ مطلقٍ للموقف الآخر. ويصعب كثيرًا أن نجد من يحاول إبراز إيجابيات كل طرفٍ وسلبياته، من الناحية المعرفية و/ أو الأخلاقية. فالنقاشات في هذا الخصوص تتأسس على تقييمٍ أخلاقيٍّ ناجزٍ ومهيمنٍ على وجهة نظر كل طرفٍ، بحيث يتم التركيز على إظهار لا معقولية موقف الطرف الآخر، ولا-مقبوليته الأخلاقية، بالدرجة الأولى. وحديثنا عن وجود طرفين أساسيين يشتركان في صفة أساسيةٍ ما، لا يعني أننا نقول بتماثل فعليٍّ بينهما، كمًّا أو كيفًا، نظريًّا أو عمليًّا، معرفيًّا أو أخلاقيًّا. فما زال الطرف الذي يمارس التمييز السلبي ضد المثليين هو الطاغي والمهيمن، لدرجة يصبح فيها الحديث عن وجود طرفٍ آخر، بالمعنى الكامل للكلمة، هو، في كثيرٍ من الأحيان، أقرب إلى المجاز منه إلى الحقيقة. فما زال الطرف الممثل للمثليين والمدافعين عنهم، أو المتبني لقضيتهم، يظهر من خلال أصواتٍ فرديةٍ غير منظمةٍ. كما أنَّ حضور هذا الطرف في الثقافة العربية/ السورية المكتوبة لم يحصل إلا حديثًا، فيما اقتصر هذا الحضور سابقًا على أن يكون، في تلك الثقافة، شفهيًّا، وفي حدودٍ ضيقةٍ عمومًا. ويمثِّل هذا الانتقال في مناقشة هذه المسألة من الشفاهية إلى الكتابية، انتهاكًا خاصًّا وإضافيًّا للتابوات المرتبطة بهذه المسألة.
يمكن تفسير حالة القطبية السائدة، في المواجهات الفكرية، بين المدافعين عن المثلية والمتهجمين عليها، بكون التابو الجنسي عمومًا، وتابو المثلية الجنسية خصوصًا (وبين الذكور بالدرجة الأولى)، هو، من زاويةٍ ما، أقوى التابوات الثلاثة المعروفة، في ثقافتنا العربية الإسلامية (السياسة والدين والجنس). صحيحٌ أنه يوجد سلطات ومؤسسات سياسية (و)دينية، مقابل انعدام وجود “سلطات جنسية”، في العالم العربي (و)الإسلامي؛ وصحيحٌ أن السلطة السياسية هي الأقوى والأكثر هيمنةً؛ لكونها هي السلطة المالكة لممكنات ومكامن القوة والسيطرة، لكن، مع ذلك، يبقى الخروج على النظرة التقليدية السائدة، في خصوص التابو الجنسي، في مجتمعاتنا، والتحرر منها، أكثر صعوبة غالبًا من انتهاك التابوات الأخرى. ويصدق هذا الأمر خصوصًا، حين يتعلق الأمر بالمثلية الجنسية عمومًا، وبالمثلية الجنسية بين الذكور خصوصًا. وقد تم اختلاق أو فبركة أحكامٍ دينيةٍ، للتحذير من فداحة ذنب أو خطيئة من “يتورط” في ممارسةٍ جنسيةٍ مثليةٍ. وأحد هذه الأحكام نجدها في القول التالي، الشائع في الثقافة الشعبية (الحلبية): “كل شيءٍ يُغتفَر إلا إدخال الذكر في الذكر”. ويمكن للعقوبات “الدينية” التي ينبغي إيقاعها على المثلي الجنسي، أن تصل إلى الرمي من شاهقٍ، وفقًا للفقه السني، والحرق بالنار، وفقًا للفقه الشيعي. في المقابل، وعلى الصعيدين النظري والعملي، ثمة “تساهلٌ” كبيرٌ غالبًا، في العقوبات المفروضة على المثليات جنسيًّا.
(3) خصوصية وضع تابو الجنس/ المثلية الجنسية (بين الذكور) في الثقافة العربية (و) الإسلامية
لإعطاء مثالٍ عن التداخل بين التابوات الثلاثة، وإبراز خصوصية التابو الجنسي، في الثقافة العربية (و)الإسلامية، لا بد من الانتباه إلى مضامين محاجَّات بعض الإسلامويين المعادين للديمقراطية و/ أو العلمانية. ففي إطار هجومهم على الديمقراطية والليبرالية والعلمانية وما يتصل بها من أفكارٍ، بوصفها “أفكارًا استعماريةً دخيلةً على مجتمعاتنا وثقافتنا”، يشدِّد معظم هؤلاء الإسلامويين على فكرة أن هذه الانظمة أو النظريات تتضمن إباحة ممارسة الجنس بدون زواجٍ، وإمكانية أن يتبادل الناس القُبَل في الأماكن العامة … إلخ. وتصل محاجتهم إلى ذروة قوتها، في هذا الخصوص، حين يشيرون إلى أن هذه الأنظمة تبيح المثلية الجنسية. فهذه الإباحة كافيةٌ، من وجهة نظرهم، لإظهار مدى انحطاط هذه الانظمة أو النظريات الغربية، ولتنفير عددٍ كبيرٍ من الناس من هذه الأنظمة، وإثبات أنها غريبةٌ على قيمنا وثقافتنا ومجتمعاتنا، وغير مناسبةٍ لأن تُطبَّق وتنتشر فيها. ومن الواضح إلى أي حدٍّ يخدم هجوم الإسلامويين على الديمقراطية المستبدين وثقافة الاستبداد السياسي وغير السياسي.
يمكن توضيح الحساسية الهائلة الموجودة في مجتمعاتنا حيال التابو الجنسي عمومًا، والمثلية الجنسية خصوصًا، من خلال الإشارة إلى أن (بعضًا من) أهم القيم الاخلاقية/ الاجتماعية، في ثقافتنا، تتصل، اتصالًا مباشرًا وقويًّا، بالموضوع الجنسي: قيم الشرف والرجولة أو “الزلومية” والعفة والطهارة … إلخ. وإذا قبلنا رؤية تشارلز تايلور بأن الثقافة الغربية قد حققت نقلةً جذريةً، حين حلَّ مفهوم الكرامة، وما يتضمنه من مساواةٍ أخلاقيةٍ بين كل الأفراد، بوصفهم أشخاصًا، محل مفهوم الشرف، وما يتضمنه من تراتبيةٍ وعدم مساواةٍ، يمكننا القول إننا ما زلنا في إطار ثقافةٍ يهيمن عليها مفهوم الشرف، لا مفهوم الكرامة. وينبغي الانتباه هنا إلى أن “المفهوم الشرقي للشرف” لا يقتصر على المكانة العليا للشخص، أو بالأحرى للفرد، في السلم الاجتماعي ونسبه الوراثي الرفيع (دينيًّا على الأغلب)، وإنما يمتد ليشمل، بشكلٍ كبيرٍ وخاصٍّ، المسائل الجنسية المرتبطة بهذا الشخص. فوفقًا لهذا المفهوم، إن شرف الإنسان- الذكر هو عرضه، أي زوجته وبناته وأمه وأخواته وربما بنات عمه وما شابه أيضًا. وشرف البنت هو جسدها وعذريتها ومدى عفتها وحفاظها على نفسها، في هذا الخصوص.
وتبدو خصوصية المثلية الجنسية بين الذكور واضحةً، وضوحًا كبيرًا، حين نقارنها مع المثلية الجنسية بين الإناث. ففي هذه المقارنة، يبدو واضحًا أن المثلية بين الذكور هي فقط من يستحق سمة التابو. وحتى ضمن المثلية بين الذكور، ثمة تفاوتاتٌ كبيرةٌ في قوة محظور أو تابو هذا “النوع” من المثلية أو ذاك. فعلى سبيل المثال والخصوص، شتَّان بين أن يكون المثلي هو الذي يقوم بالإيلاج وبين أن يكون هو من “يتم الإيلاج فيه”. فذروة المحظور أو التابو تتجسد في أن يمارس الرجل الدور المفترض للأنثى في العملية الجنسية. هذا هو الأمر الذي “لا يمكن” للعقل الذكوري المعادي للمثلية الجنسية أن يتقبَّله، أو حتى أن يقبله؛ وهذا هو تحديدًا أو خصوصًا، ما يتسم، في الثقافة الذكورية المعادية للمثلية، بسمات التابو، بالمعنى الكامل للكلمة. وربما كان “زنا المحارم” هو التابو الجنسي الوحيد الذي يعادل أو يفوق، من حيث شدته، تابو المثلية الجنسية بين الذكور. وفي مقابل هذا “التابو الأعظم” وما يماثله، تهون، غالبًا أو في كثيرٍ من الأحيان، كل الأشكال أو الأنواع الأخرى من المثلية الجنسية؛ وقد يندرج، ضمن هذه الأنواع، البيدوفيليا، أو التحرش الجنسي بالأطفال، أو الاشتهاء والوَلَعُ بالأطفال!
ومن الضروري الانتباه إلى أن المصطلح المستعمل، في الثقافة الشعبية واللغة اليومية الدارجة، للتعبير عن المثلية الجنسية، لا يتمثَّل في المثلية الجنسية أو حتى الشذوذ الجنسي، وإنما يتجسد، تحديدًا وخصوصًا، في لفظة “اللواطة”. وعلى العكس من مصطلحي “المثلية الجنسية” و”الشذوذ الجنسي”، اللذين يشيران إلى المثلية الجنسية لدى الذكور والإناث على السواء، فإن مصطلح “اللواطة” يختص بالمثلية الجنسية لدى الذكور فقط. ويشير الاستخدام الشعبي والمهيمن لهذا المصطلح، في الحديث عن ظاهرة المثلية الجنسية، إلى مدى قوة وخصوصية تابو المثلية الجنسية بين الذكور، حتى مقارنةً بتابو المثلية الجنسية بين الإناث. وعلى هذا الأساس، يجسِّد التحول الجنسي لدى “الذكور/ الإناث” انتهاكًا قويًّا وجسيمًا للتابو، بحيث يمكن القول إنه يعادل، في قوته وجسامته، انتهاك التابو المتمثِّل في المثلية الجنسية بين الذكور.
وتبدو خصوصية المثلية الجنسية عمومًا، والمثلية الجنسية بين الذكور خصوصًا، واضحةً أيضًا، إذا انتبهنا إلى أن إمكانية التصريح ضدها هي عمومًا أكثر سهولةً وشيوعًا، في ثقافتنا، لدرجة أن معظم الناس لا يرون وجوب ممارسة التقية، و/ أو استخدام الكلام “اللائق سياسيًّا”، في هذا الخصوص. وبالمقارنة مع التابويين السياسي والديني، يبدو ذلك أمرًا استثنائيًّا، ولافتًا للانتباه، ومثيرًا للتفكير عمومًا. ففي حين يمارس كثيرون المراوغة والتقية أو الكذب، في خصوص طائفيتهم أو عنصريتهم الإثنو-دينية و/ أو تأييدهم للديكتاتوريات الحاكمة، فإن كثيرًا من هؤلاء لا يتورعون عن التعبير، بصراحةٍ (أو بوقاحةٍ!)، عن نفورهم واشمئزازهم من المثلية الجنسية ومن المثليين، وعن معاداتهم لها ولهم، ورفضهم القاطع للمساواة الحقوقية الكاملة بين المثليين والمغايرين جنسيًّا. وبكلماتٍ أخرى، ليس نادرًا أن نجد أشخاصًا معارضين للديكتاتورية ورافضين للطائفية ولكل أشكال العنصرية الإثنو-دينية، وهم، في الوقت نفسه، معادون علنيون للمثلية والمثليين. وتوضح هذه الجرأة العنصرية تجاه المثليين مدى شدة تجذر القيم المرتبطة بالجنس في النفوس، بحيث تبدو بديهيةً وطبيعيةً وأخلاقيةً، إلى أبعد حدٍّ، في الوقت نفسه.
(4) في بعض الإشكاليات المرتبطة بسياسات الهوية والتمييزين الإيجابي والسلبي تجاه المثليين
تثير مسألة مكافحة التمييز السلبي الممارس ضد المثليين، في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية، إشكالياتٍ كثيرةً. وعلى الرغم مما يبدو من اتساق هذه المكافحة مع مبادئ الديمقراطية، إلا أن ثمة شكوكًا قويةً في إمكانية تضمُّن هذه المكافحة أبعادًا غير ديمقراطيةٍ، أو في إمكانية أن تفضي إلى مثل هذه الأبعاد. فديمقراطية هذه المكافحة تكمن في كونها تهدف إلى إزالة كل أشكال التمييز والظلم التي يتعرض لها المواطنون، بما يساعد على تحقيق المساواة القانونية والمبدئية بينهم، بغض النظر عن الاختلافات الكثيرة والكبيرة الموجودة فيما بينهم. وهذه المساواة هي (إحدى) أهم مبادئ الديمقراطية وأسسها. وفي خصوص هذه المساواة، تُثار الكثير من التساؤلات التي تضع ديمقراطية هذه المكافحة موضع شكٍّ او تساؤلٍ على الأقل. فمن ناحيةٍ أولى، يبدو أن هذه المكافحة قد تتعارض، جزئيًّا على الأقل، مع مبدأ حرية التعبير، بحيث لا يستطيع المواطن التعبير عن رأيه بصراحةٍ، في خصوص كثيرٍ من المسائل التي يُظن أنها تتضمن تمييزًا سلبيًّا ضد هذه الجماعة أو تلك. وقد ازدادت حساسية المجتمعات والقوانين الغربية في هذا الخصوص، وازداد التشديد، القانوني والسياسي والاجتماعي، على ضرورة التقيد بالقواعد المتكاثرة التي تحدد ماهية الصواب السياسي أو اللباقة السياسية في التعبير، حتى عندما يكون ذلك على حساب دقة وموضوعية التعبير عن آرائنا وعن الواقع الذي نتحدث عنه. وازدادت سلبيات هذه الحساسية مع الحضور المتزايد ﻟ “سياسات الهوية” التي تحوِّل أعدادًا كبيرةً من المواطنين إلى مجموعاتٍ ذات هوياتٍ متمايزة ومظلومياتٍ عريقةٍ. وفي إطار هذه السياسات، يتم التركيز على خصوصية كل واحدةٍ من المجموعات أو الجماعات المكونة لمجتمعٍ ما، وعلى الاختلافات القائمة بينها، أكثر من التركيز على القواسم القائمة فيما بينهم، وعلى المساواة الواجب حضورها فيما بينهم، أو فيما بين الأفراد المنتمين إليها، بوصفهم مواطنين.
إنَّ تحقيق الإيجابية الكاملة ﻟ “التمييز الإيجابي” يقتضي فصل هذا التمييز عن سياسات الهوية، والنظر إليه على أنه خطوةٌ مرحليةٌ أو مؤقتةٌ، لكنها ضروريةً وأساسيةً، في طريق إزالة كل أشكال التمييز السلبي بين الناس، وتحقيق المساواة الحقوقية بينهم، بوصفهم أفرادًا وأشخاصًا ومواطنين، بغض النظر عن كل انتماءاتهم الجماعاتية أو الإثنو-دينية. ففي إطار سياسات الهوية، يتم إبراز الاختلافات والخصوصيات، والتوجه نحو تعاملاتٍ تفضيليةٍ أو خاصةٍ لهذه المجموعة أو تلك، بما يتعارض، تعارضًا ظاهريًّا على الأقل، مع مبدأ المساواة الديمقراطية؛ ويسهم في احتمال صياغة صراعاتٍ هامشيةٍ مصطنعةٍ (بين النساء والرجال، بين السود والبيض، بين المثليين والمغايرين، بين المعوقين وغير المعوقين … إلخ)، والتركيز عليها، والتعمية على الصراعات الأساسية في الواقع، والمتمثلة خصوصًا في الصراعات الاقتصادية (و)السياسية. فلسنا، ولا ينبغي لنا أن نكون، أمام تخييرٍ أو قضيةٍ عناديةٍ من نوع “إما إعادة التوزيع الاقتصادي- السياسي أو الاعتراف الثقافي- الهوياتي”. ومن الضروري إثارة النقاش في خصوص مدى تكامل أو تعارض المطالب المتعلقة بالهوية والاعتراف مع الصراعات السياسية- الاقتصادية، على غرار النقاش الذي دار بين أكسيل هونيت ونانسي فريزر، في كتابهما المشترك “إعادة التوزيع أو الاعتراف، مطارحات فلسفية – سياسية”(.
المثلية الجنسية ليست مجرد رغبةٍ جنسيةٍ مختلفةٍ عن تلك الموجودة لدى المغايرين، بل هي “نمط وجودٍ” وتمثل جزءًا أو جانبًا مهمًّا من هوية الإنسان- المثلي. ويزداد حضور هذا الجزء أو الجانب في هوية الإنسان المثلي، عندما يتم اختزاله إلى مثليته من قبل الآخرين. وقد يتجسد هذا الاختزال في صيغة سلبيةً عندما يتمثل في صيغة القمع والتمييز السلبي، لكنه قد يتجسد أيضًا في صيغةٍ إيجابيةٍ يمكن تسميتها ڊ “الاعتراف”: الاعتراف بالإنسان المثلي، بوصفه مثليًّا، ومعاملته على هذا الأساس. وعلى الرغم من إيجابية هذا “الاعتراف” إلا أنه يتضمن دائمًا خطر اختزال إنسانية الإنسان إلى أو في جانبٍ معينٍ من جوانب هويته. فالاعتراف بمثلية الإنسان المثلي قد يتضمن تركيزًا مبالغًا على مثليته التي تميزه عن غير المثليين، وإهمال أو تجاهل السمات الأخرى لإنسانيته التي تجمعه مع آخرين كثر، بغض النظر عن كونهم مثليين أو غير مثليين. ومن هنا ضرورة الفصل بين مسألتي الاعتراف والهوية، والانتقال من الاعتراف بالإنسان المثلي، بوصفه مثليًّا، أو بوصفه ذا هويةٍ مختلفةٍ عن هوية غير المثليين، إلى الاعتراف بحقوقه ومكانته التي ينبغي أن تكون مساويةً لحقوق الآخرين ومكانتهم، من حيث المبدأ، بغض النظر عن كونهم مثليين أو غير مثليين. إن تجنب سياسات الهوية لصالح سياسات المساواة، من خلال فصل سياسات الاعتراف عن سياسات الهوية وربطها بحقوق الإنسان ومكانته القانونية والأخلاقية في المجتمع، لا بهويته المزعومة او الفعلية، يسمح بتجاوز الكثير من سلبيات التمييز الإيجابي الذي ينبغي ممارسته مرحليًّا، تجاه المثليين وتجاه غيرهم من الجماعات المضطهدة و/ او المقموعة.
إذا كان الانتماء إلى جماعة المثليين هو “انتماء لا-إراديٌّ”، لأنَّ مثلية الشخص (أو عدم مثليته) هي قدَرٌ، لا دورًا (كبيرًا) للإرادة فيه، فلا ينبغي أن نختزل الإنسان المثلي أو غير المثلي إلى انتماءاته القدرية أو اللا-إرادية، بل ينبغي التركيز على “انتماءاته الإرادية” التي نتجت عن قراره الحر بالانتساب إلى هذه الجماعة (الفكرية أو السياسية أو الأيديولوجية أو الاجتماعية …إلخ). فلإبراز فردية الفرد، واحترام شخصه، ينبغي لنا أن نركز على انتسابه لا على نسبه. وفي حال تناول النسب أو الانتماء القدري أو اللا-إرادي، ينبغي أن يتم تركيز الاهتمام، بالدرجة الأولى، على النسب الأوسع والمتمثِّل في انتمائه، القدري أو اللا-إرادي، إلى جماعة البشر. ويمكن للانطلاق من الإنسانية، بالمعنى الوصفي للكلمة، أن يساعد على بلوغ درجةٍ إيجابيةٍ من الإنسانية، بالمعنى القيمي أو المعياري للكلمة. والإنسان المثلي ليس مجرد إنسانٍ- مثليٍّ، وإنما هو، أيضًا وخصوصًا، إنسانٌ، مثلي ومثل غيري؛ وإذا لم يتأسس الاعتراف بمثليته، والتفاعل معها، على أساس الاعتراف بالإنسانية المشتركة مع غيره من غير المثليين، وعلى أساس فرادته، بوصفه شخصًا متميِّزًا عن غيره من الأشخاص، فسيتم اختزاله، ودفعه إلى اختزال ذاته وهويته، في وإلى هذه المثلية. ويمكن لهذا الاختزال أن يتضمن تشويهًا لإنسانية الإنسان المثلي، أكثر من إمكانية أن يكون تجسيدًا لهذه الإنسانية أو تحقيقًا فعليًّا لها.
(5) في ما يشبه الخاتمة
ثمة ضرورةٌ أخلاقيةٌ لحصول المثليين على حقوقهم الكاملة في المعاملة المتساوية مع غير المثليين، استنادًا إلى رؤيةٍ تتبنى منظومة حقوق الإنسان والقيم الأساسية للديمقراطية والليبرالية. وفي المقابل، ثمة ضرورة لتجنب الاقتصار على هذا الموقف الأحادي، وعلى أهمية العمل على إظهار أن (كثيرًا من) النافرين من المثلية والمعادين لها، في ثقافتنا العربية (و)الإسلامية ليسوا (مجرد) مجرمين أو جناة أو “أشخاصٍ سيئين” يمكن و/ أو ينبغي إدانتهم ومعاداتهم، بسبب موقفهم السلبي من المثلية الجنسية. فالدفاع عن منظومة حقوق الإنسان عمومًا، ومن ضمنها حقوق المثليين الجنسيين، ينبغي أن يأخذ في الحسبان أن النفور أو عدم النفور من المثلية الجنسية هو أمرٌ مرتبط بالبنية السياسية- الاجتماعية- التربوية- الثقافية السائدة، أكثر بكثير من ارتباطه بقرار الإنسان- الفرد. وإذا كان الدفاع عن المثلية يتضمن أحيانًا القول إنها ليست خيارًا حرًّا، بل “طبيعةٌ وجوديةٌ”، فبالإمكان الاستناد، جزئيًّا ونسبيًّا، إلى الحجة ذاتها، في خصوص نفور أشخاصٍ كثيرين من المثلية. فإذا كانت المثلية الجنسية تنتمي إلى ما يمكن الاصطلاح على تسميته ﺑ “الطبيعة (العضوية- النفسية) الأولى”، فإن النفور منها ومعاداتها ينتميان، في عالمنا العربي/ الإسلامي، إلى ما يمكن الاصطلاح على تسميته ﺑ “الطبيعة (الاجتماعية) الثانية”.
إن تغيير أوضاع المثليين، وتحسينها، والعمل على التخلص من النفور السائد منهم، في ثقافتنا العربية (و) الإسلامية، كل ذلك يقتضي العمل على تغيير البنية السياسية- الاجتماعية- التربوية- الثقافية السائدة المنتجة لهذا النفور، أكثر من اقتضائه انتقاد الأفراد النافرين من المثلية والمثليين، أو حتى المعادين لهم. فمعظم هؤلاء النافرين والمعادين ليسوا فقط ضحايا بنيةٍ تدفعهم دفعًا إلى النفور من المثلية والمثليين، بل هم أيضًا ضحايا نظامٍ مستبدٍّ سياسيًّا ومستغلٍّ اقتصاديًّا، وسلبيٍّ وسيءٍ ثقافيًّا وتربويًّا وفكريًّا. و في الدفاع عن حقوق المثليين، ليس مناسبًا استخدام منظومة حقوق الإنسان لمهاجمة النافرين منهم، أو حتى المعادين لهم، في مجتمعاتنا العربية (و)الإسلامية، من دون الأخذ في الحسبان أن معظم هؤلاء النافرين والمعادين للمثلية والمثلية، هم بدورهم محرومون من معظم حقوق الإنسان، الأساسية وغير الأساسية.
قد يبدو مفارقًا وطريفًا القول إن الدفاع عن المثليين يقتضي، جزئيًّا ونسبيًّا، الدفاع عن النافرين منهم، وحتى المعادين لهم، لكن الغرابة الظاهرية التي تتسم بها هذه المفارقة الطريفة تزول، على الأرجح، من خلال التشديد على أن البحث عن بعض المعقولية في حجج النافرين من المثلية الجنسية، وعدم تحميلهم المسؤولية الكاملة أو الأكبر، في خصوص هذا النفور وتلك المعاداة، لا يعني تقبل أو حتى قبول أي شكلٍ من أشكال هذا النفور وتلك المعاداة. لكن التخلص منهما يقتضي فهم أسبابهما وإظهار قدرٍ من التفهم لأصحابهما، بدلًا من الاستسلام لرد الفعل العدائي الحمورابي المتمثل في مبادلة النفور بالنفور والمعاداة بالمعاداة. ومن المعلوم أن المواجهة الفكرية الصدامية الطويلة الأمد، بين المتخاصمين أو المتعادين، تفسح المجال لتأثير كل طرفٍ في الطرف الآخر، تأثيرًا سلبيًّا كبيرًا، بحيث تفضي هذه المواجهة إلى تمثل كل طرفٍ لبعض أبرز سلبيات الطرف الآخر، أو التماثل معه، جزئيًّا ونسبيًّا، في هذا الخصوص.
من الضروري العمل، قدر المستطاع، على تجنب الجدل السلبي، والمتمثل في وجود نقائض أو تناقضات لا يمكن الجمع أو التوفيق بينها، في تركيبٍ أعلى. وفي مثل هذه السياقات، يظهر هذا الجدل عادةً، عن طريق صياغة الاختلافات على غرار القضايا العنادية التالية: إما منظومة حقوق الإنسان وإما ثقافتنا الشعبية المحلية، إما إقرار حقوق المثليين وإما احترام قيم الغالبية المناهضة لهذه الحقوق …إلخ. ولتجنب هذه النقائض والجدل السلبي غير المنتج القائم بينها، و/ أو التخلص منهما، من الضروري السعي إلى إقامة جدلٍ إيجابيٍّ أو منتجٍ يجمع بين هذه المتناقضات في تركيبٍ أعلى يتجاوز طرفي التناقض ويتضمنهما، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، في الوقت ذاته. والأمل كبيرٌ في التنبُّه، من جهةٍ أولى، إلى الضرورة أو الأهمية المعرفية والأخلاقية والسياسية الكبيرة للسعي إلى إقامة مثل هذا الجدل، ومن جهةٍ ثانيةٍ، إلى الإمكانية الفعلية، النظرية والعملية، لنجاح مثل هذا السعي.
Leave a Reply